جُبِلَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا صَفْوًا مِنَ الْآلاَمِ وَالْأَكْدَارِ وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ |
فالذي يظنُّ الأمنَ في
الدنيا واهمٌ وغارق في بحار الأمانيِّ الكاذبة؛ لأنَّها ليست دارَ أمان ولا
راحة، إنَّما هي للعناء خُلقت، والسَّعيد فيها هو الماهرُ بمدافعة
كَبَدِهَا وشقائها؛ قال الله - تعالى -: {
لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}
[البلد: 4]، وغالبُ أمر المؤمن أنَّه ألِف جراحَها وعذابها، باستصغار
آلامِها وضناها لقاء عذاب الآخرة، وهو مع ذلك يُردِّد مع القائل بإحساسه
وقلبِه حُداءً على طريق الْتزامه:
هَوِّنِ الْأَمْرَ تَعِشْ فِي رَاحَةٍ كُلَّمَا هَوَّنْتَ إِلاَّ سَيَهُونُ لَيْسَ أَمْرُ الْمَرْءِ سَهْلاً كُلُّهُ إِنَّمَا الْأَمْرُ سَهُولٌ وَحَزُونُ رُبَّمَا قَرَّتْ عُيُونٌ بِشَجًى مَرْمِضٍ قد سَخِنَتْ مِنْهُ عُيُونُ تَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي دَارِ الْعَنَا خَابَ مَنْ يَطْلُبُ شَيْئًا لاَ يَكُونُ |
فوائد الصبر:وحينما
ينزل البلاءُ بساحة العِباد تتغيَّر أحوالهُم بين جازعٍ وراض؛ فمنهم مَن
يلقَى أقدار الله في دنياه بالقُنوط واليأس، قد أهلك نفسَه مِن كلِّ جانب،
ومنهم مَن يشتمله الرِّضا والمصابرة ومغالبة النوائب بتحصيل الأجْر،
وإعلاءِ بيان العبودية بالتَّسليم، فهو المؤمن الذي يصبر عندَ البلاء، وله
الجوائزُ والمنح الموعودة في قوله - تعالى -: {
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155- 157].
"قال
عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - تعليقًا على هذا النور الأسنَى: "نِعْم
العِدلان ونعم العِلاوة"، أراد بالعِدلين: الصلاة والرَّحمة، وبالعِلاوة
الاهتداء
[1].
وأجورُ
الصابرين لا تضيع، بل لهم صكُّ ضَمانٍ تام بإدراك العِوَض المُرْضِي
لقلوبهم عن صبرهم وتجلُّدهم على ما رمتهم به الأيَّام؛ قال الله - تعالى -:
{
إِنَّه مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
ولأهلِ
الصَّبر بشارات من الملائكة الأطهار، وصحبةٌ مباركةٌ، وعشرةٌ طاهرةٌ في
جنَّاتِ الخلود؛ قال الله - تعالى - عن المؤمنين بعد ذِكْر طَرَفٍ من
صفاتهم: {
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا
وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 - 24].
ومِن فضل الله - تعالى - على أهْل الصَّبر عند البلاء أنَّهم سيُوفَّون أجورَهم بغير حساب ولا ملام؛ قال الله - تعالى -: {
إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
[الزمر: 10]، وبيانًا لذلك يذكر الإمام السيوطي - رحمه الله تعالى -: "عن
قتادة - رضي الله عنه - قال: لا واللهِ ما هناك مكيالٌ ولا ميزان.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جُريج - رضي الله عنه - قال: "بَلغني أنَّه لا يُحسب عليهم ثوابُ عملهم، ولكن يُزادُون على ذلك"
[2].
وصدق الله - تعالى - القائل: {
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111].
وعن
ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:
((يُؤتَى بالشهيد يومَ القيامة، فيُوقَف للحساب، ثم يُؤتى بالمتصدِّق فينصب
للحساب، ثم يُؤتى بأهل البلاءِ فلا يُنصب لهم ميزانٌ، ولا يُنصب لهم
ديوان، فيُصبُّ عليهم الأجرُ صبًّا، حتى إنَّ أهل العافية ليتمنَّوْن في
الموقف أنَّ أجسادهم قُرِضت بالمقاريض مِن حُسن ثواب الله))
[3].
ومِن أعظم الوصايا القرآنيَّة المربية للنفوس على الصَّبر تلك التي جاءت على لِسان لقمان الحكيم - وهو يُوصي ولدَه -: {
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، فالصبر اختبارٌ، ومنازل يرقاها العبدُ وقتَ البلوى، أو يَسقط على طريق الإيمان؛ قال الله - تعالى -: {
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقال
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "وجدْنا خيرَ عَيشنا بالصَّبر"، وقال على
بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "ألاَ إنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة
الرَّأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بارَ الجسم"، وقال الحسن: "الصَّبر كَنزٌ
من كنوز الخير، لا يُعطيه الله إلاَّ لعبد كريم عنده"
[4].
عند الصدمة الأولى:وعند
هجوم المِحن والمصائب على العبد يجبُ عليه أن يقابلَها من أوَّل وقوعها
بالثبات والتجلُّد، حتَّى يتلاشى وقْعُها، وتذهب رِيحُها؛ فعن أنس بن مالك -
رضي الله عنه - قال: أتى نبيُّ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - على
امرأة تبكي على صبيٍّ لها، فقال لها: ((اتَّقي اللَّهَ واصبري))، فقالت:
وما تُبالي أنت بمصيبتي؟! فقيل لها: هذا النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -
فأتتْه، فلم تجدْ على بابه بوَّابين، فقالت: يا رسولَ اللَّه، لم أعرفْك،
فقال: ((إنَّما الصَّبر عندَ الصدمة الأولى، أو عند أول صدمةٍ))
[5].
وعن
أمِّ المؤمنين أمِّ سلمة - رضي الله عنها - أنَّ أبا سلمةَ حدَّثها: أنَّه
سمع رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما مِن مُسلمٍ يُصاب
بمصيبة، فيَفْزع إلى ما أَمَر الله به، من قوله: إنَّا لله وإنَّا إليه
راجعون، اللهمَّ عندكَ احتسبتُ مصيبتي، فأْجُرني فيها، وعَوِّضني منها،
آجره الله عليها، وعاضه خيرًا منها))، قالت: فلمَّا تُوفِّي أبو سلمة،
ذكرت الذي حدَّثني عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقلت: إنَّا
لله وإنَّا إليه راجعون، اللهمَّ عندكَ احتسبت مصيبتي هذه، فأجُرني عليها،
فإذا أردتُ أن أقول: وعِضْنِي خيرًا منها، قلت في نفسي: أُعَاضُ خيرًا من
أبي سلمة؟! ثم قلتُها، فعاضني الله محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم -
وآجرني في مصيبتي))
[6].
فالخُطوة
الأولي هي واجبُ العبد بمجاهدة القلْب، وشحْنه بجُرعات الصَّبر والثبات مع
الرِّضا بالمقدور، ومِن ثَمَّ؛ تتنزل النُّصرة الإيمانيَّة عليه بالتعويض،
ورفْع البلوى، واكتساب أجْر، ورفْع وِزر، وانعدام ضُر؛ قال الله - تعالى
-: {
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}
[العنكبوت: 69]، فإنَّ الهداية مهرُها في ذُرا الإيمان جهاد وبذل، والله -
تعالى - يُنزل رحمتَه على مَن يطلبها مِن عباده، ويأرز إلى كنف العزيز،
فيثبت على الطريق، ولا تجتذبه المفجعات بالجزَع الذي يفقده المرابح مِن
كلِّ سبيل.
الجزع مصيبة أخرى:والجَزوع
قد خسر القضيةَ في مجال إيمانه مِن أوَّل جولة، كأنَّه ناقمٌ على ما قضى
به مولاه، غير راضٍ بما قدَّر عليه، وهو لم يزلْ في عالَم الغيب مخفيًّا،
وكيف ذلك ونحن نرى صروفَ الأقدار تنزل بالغَيْر على العباد؟!
لاَ بُدَّ مِنْ فَقْدٍ وَمِنْ فَاقِدٍ هَيْهَاتَ مَا فِي النَّاسِ مِنْ خَالِدِ |
قال ابن المبارك - رحمه
الله تعالى -: "إنَّ المصيبة واحدة، فإذا جزع صاحبُها فهما اثنتان؛ لأنَّ
إحداهما المصيبة بعينها، والثانية ذَهاب أجره، وهو أعظم من المصيبة"؛
الإبشيهي، "المستطرف في كل فن مستظرف"
[7].
والجزع صورةُ اليأس في القلْب البادية على الوجه والله - تعالى - يقول: {
إِنَّهُ لاَ يَيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
من سير الصابرين على البلاء:وقد
ذَخر تاريخنُا الإسلامي بروائع الأمجاد الإيمانيَّة التي خلَّدت معنى
الصبر في نفوس المسلمين على مرِّ العصور، وقد كان أبطالُ تلك المواقف أشباه
الملائكة في حُسن معانيهم، فهم زينةُ المجالس عبرَ مرِّ الزمن، والذِّكر
للإنسان عمر ثان؛ قال الله - تعالى -: {
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا...} [السجدة: 24].
منهم
هذا الرَّجل العظيم "عروة بن الزبير" - رضي الله عنه - حين قَدِم على
الوليد بن عبدالملك، ومعه ابنه محمَّد - وكان من أحسن الناس وجهًا - فدخل
يومًا على الوليد في ثياب وشيٍّ، وله غديرتان "ضفيرتان"، وهو يضرب بيده
فقال الوليد: هكذا تكون فِتيان قريش، فعانَه "فحسده"، فخَرج من عنده
متوسِّنًا "نائمًا نومًا خفيفًا"، فوقع في إسطبل الدواب، فلم تزلِ الدواب
تطأه بأرجلِها حتى مات، ثم إنَّ الأكلة وقعتْ في رجل عروةَ، فبعث إليه
الوليدُ الأطبَّاء، فقالوا: إنْ لم تقطعها سَرَت إلى باقي الجسد فتهلِك،
فعزم عليها فقطعَها، فنشروها بالمِنشار، فلمَّا صار المِنشار إلى القَصبة
وضع رأسَه على الوسادة ساعةً، وغشي عليه، ثم أفاق والعَرَق يتحدَّر على
وجهه، وهو يُهلِّل ويكبِّر، فأخذها وجعل يُقبِّلها في يده، ثم قال: أمَا
والذي حملني عليك، إنَّه ليَعلم أنِّي ما مشيتُ بك إلى حرام، ولا إلى
معصية، ولا إلى ما لا يُرضي الله، ثم أَمَر بها فغُسلت وطُيِّبت، وكُفنت في
قطيفة، ثم بعث بها إلى مقابر المسلمين، فلمَّا قَدِم من عند الوليد
المدينة، تلقَّاه أهل بيته وأصدقاؤُه يُعزُّونه، فجعل يقول: {
لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}
[الكهف: 62]، ولم يَزدْ عليه، ثم قال: لا أدخل المدينة، إنَّما أنا بها
بين شامتٍ بنكبة، أو حاسد لنِعمة، فمضى إلى قصر بالعقيق قأقام هناك، فلمَّا
دخل قصرَه، قال له عيسى بن طلحة: وأَمَا والله ما كنَّا نعدُّك للصِّراع،
قد أبقى الله أكثرَك، عقلك ولسانَك، وبصرك ويداك، وإحدى رجليك، فقال له: يا
عيسى ما عزَّاني أحدٌ بمثل ما عزيتني به"
[8].
وقد أحسن أبو العتاهية بقوله:
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ أَوَ مَا تَرَى أَنَّ الْمَصَائِبَ جَمَّةٌُ وَتَرَى الْمَنِيَّةَ لِلعِبَادِ بِمَرْصَدِ مَنْ لَمْ يُصَبْ مِمَّنْ تَرَى بِمُصِيبَةٍ هَذَا سَبِيلٌ لَسْتَ فِيهِ بِأَوْحَدِ فَإِذَا ذَكَرْتَ مُحَمَّدًا وَمُصَابَهُ فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ |
ولا شكَّ أنَّ أعظم المصائب
ما كان منها في جانب الدِّين؛ ولذلك كان من دعاء النبيِّ - صلَّى الله
عليه وسلَّم -: ((... ولا تجعلْ مُصيبتَنا في دِيننا...))؛ الألباني في
"صحيح الجامع"، (1268)، عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - بسند
حسن.
لأنَّ كل المصائب تهون، وهي ذاهبةٌ بذَهاب أوانها، ويعوض الله - تعالى - خيرًا منها؛ إلاَّ مصيبة الدِّين.
وَأخيرًا:
ليس المطلوب في أمر الصبر هو أن ينسلخ المرءُ من آدميته، فيميت مشاعرَه، ومِن ثَمَّ تستوي عنده كلُّ الأمور، كما صرَّح المعرِّي:
غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي نَوْحُ بَاكٍ وَلاَ تَرَنُّمُ شَادِ وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذا قِي سَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنْ نَتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ |
لا، فإنَّ ذلك ضدُّ
الفِطرة، وهو أمر يَعجز عنه بنو آدم، وقد أظهر النبي - صلَّى الله عليه
وسلَّم - لَمَّا قُبض ابنه إبراهيم ما يُفرِّج به عن مشاعره، بل عدَّها
رحمة؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: دخلنا مع رسول الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - على أبي سيْف القين، وكان ظئرًا لإبراهيم - عليه
السلام - فأخذ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إبراهيمَ فقبَّله
وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيمُ يجود بنفسِه، فجعلت عينَا رسول
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تَذْرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف - رضي
الله عنه -: وأنت يا رسولَ الله؟! فقال: ((يا ابنَ عوف، إنَّها رحمة))، ثم
أتبعها بأخرى، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ العينَ تدمع،
والقلْب يحزن، ولا نقول إلاَّ ما يُرضي ربَّنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيمُ
لمحزنون))
[9].
ولا يَغلب نوائبَ الدَّهر إلاَّ عزائمُ الصبر.
والله معين.والحمد لله في بَدْء، وفي خَتْم.